إن الحديث عما وقع فى دنشواى فى 13 يونيو 1906 حديث قديم يتجدد من آن لآخر كلما تطلب الأمر التأكيد على روح النضال عند الشعب المصرى وعدم استسلامه وتمسكه بالكرامة وعدم قبول الضيم. وهو حديث فى الوقت نفسه عن انطلاق الحركة الوطنية ضد الاحتلال البريطانى بزعامة مصطفى كامل. صحيح أن مصطفى كامل كان معنيا بإيقاظ الروح الوطنية من خلال الخطب والمقالات وهى الروح التى كانت قد خمدت طوال عقد من الزمان من الاحتلال، إلا أن طلقات الرصاص التى أصابت أجران قرية دنشواى وحملت رموزها إلى أعواد المشانق، حملت معها قلم مصطفى كامل إلى آفاق أوسع حيث اتخذ من الحادثة سبيلا جديدا للتأكيد على خرافة العدالة البريطانية.ورغم مرور الزمن وتعاقب السنوات على هذه الحادثة المروعة فإن القصد من الحديث عنها مجددا المحافظة على الوعى بالتاريخ وبالذات الوطنية فى مواجهة التدخل الأجنبى الذى قد يأخذ أشكالا متعددة ومتنوعة، وهذا هو المغزى الحقيقى من تكرار الحديث مهما بعد الزمن. وفى هذه المناسبة أجد من الضرورى استعادة بعض النصوص المعاصرة التى تلقى الضوء على الحادث وتعيدنا إلى روح الفترة نفسها دون مغالاة أو مبالغة. وأول هذه النصوص قرار إنشاء المحكمة المخصومة فى 25 فبراير 1895 الذى استصدره اللورد كرومر المعتمد البريطانى فى مصر لمحاكمة من يتهم من الأهالى بالتعدى على ضباط وجنود جيش الاحتلال والذى بمقتضاه تمت محاكمات دنشواي. ويبدو واضحا من اسم المحكمة أنها محكمة خاصة واستثنائية وليس لها أن تتقيد بقانون العقوبات العمول به وقتذاك. وكانت والحال كذلك تضمن للسلطات البريطانية الإجهاز على معارضيها تماما بمقتضى غطاء قانونى إجرائى حتى تبدوالعدالة مستوفاة، فالمحكمة طبقا للقانون تتكون من خمسة أعضاء.. اثنان مصريان وهما ناظر الحقانية ويرأس المحكمة، والثانى رئيس محكمة مصر الابتدائية أوالإسكندرية، وثلاثة من الإنجليز وهم كل من المستشار القضائى بالحكومة، والقاضى الإنجليزى فى محكمة الاستئناف الأهلية، والقائم بأعمال المحاماة والقضاء فى جيش الاحتلال بالقاهرة أو الإسكندرية وهذا يعنى فى أبسط الأحوال أن غالبية أعضاء المحكمة فى صالح خصوم الحركة الوطنية. وعندما تشكلت محكمة دنشواى فى 20 يونيو 1906 أى بعد أسبوع من الحادث كان العضوان المصريان لسوء حظمهما هما: بطرس غالى القائم بأعمال ناظر الحقانية آنذاك وأحمد فتحى زغلول بك رئيس محكمة مصر الابتدائية، وكان اشتراكهما فى المحاكمة مثار غضب الوطنيين إذ تم دمغهما بالخيانة. وبالامتثال لرغبة السلطات البريطانية، وظلت اللعنات تلاحقهما بسبب قبولهما الاشتراك فى محاكمة خاصة تم فبركتها بقوانين استثنائية من صنع الاحتلال الغاشم، وكان المصريون ينتظرون اعتذارهما عن المشاركة فيضاف اسماهما إلى سجل الخالدين فى الوطنية، لكنهما امتثلا لأوامر السلطة أملا فى نيل رضا الإنجليز وبركتهم، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.. فقد كان هذا الحدث الجلل أحد أسباب اغتيال بطرس غالى فيما بعد 1910، كما كان وراء إنزواء أحمد فتحى زغلول بعيدا عن مسرح الحياة إلى أن مات 1914، كما أثار اشتراكهما فى محاكمة مصريين لصالح الإنجليز إشكالية الامتثال للقانون والثورة عليه، أى متى يكون الامتثال للقانون أمرا مطلوبا ومتى تكون الثورة عليه عملا مقبولا؟ ومما يبين نية سلطات الاحتلال للقضاء على أية مقاومة ومقابلتها بالعنف الشديد نلاحظ أن صحيفة المقطم نشرت خبرا فى 18 يونيو، أى قبل تشكيل المحكمة بيومين يقول إن الأوامر صدرت بإعداد المشانق فى مكان الواقعة.. وكأن الصحيفة وهى إنجليزية أصدرت الحكم قبل أن تنعقد هيئة المحكمة!. على كل حال.. فعند تنفيذ أحكام الشنق والجلد أمام أهالى القرية كتب أحمد حلمى المحرر بجريدة اللواء جريدة الحزب الوطنى التى أسسها مصطفى كامل وكان قد حضر للتغطية الخبرية يقول: كان دمى يجمد فى عروقى بعد تلك المناظر الفظيعة فلم استطع الوقوف بعد الذى شاهدته فقفلت راجعا وركبت عربتى وبينما كان السائق يلهب خيوله بسوطه كنت أسمع صياح ذلك الرجل يلهب الجلاد جسمه بسوطه.. هذا و رجائى من القراء أن يقبلوا معذرتى فى عدم وصف ما فى البلدة من مآتم عامة. ووصف قاسم أمين الحالة النفسية يوم تنفيذ الحكم بقوله: رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا وزورا مخنوقا ودهشة عصبية بادية فى الأيدى وفى الأصوات.. كان الحزن على جميع الوجوه، حزن ساكن مستسلم للقوة مختلط بشيء من الدهشة والذهول.. ترى الناس يتكلمون بصوت خافت منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين فى دار ميت.. كأنما كانت أرواح المشنوقين تطوف فى كل مكان من المدينة.. لكن هذا الاتحاد فى الشعور بقى مكتوما فى النفوس لم يجد سبيلا يخرج منه فلم يبرز بروزا واضحا حتى يراه كل إنسان. أما مصطفى كامل وكان خارج البلاد فقد كتب فى جريدة الفيجارو الفرنسية فى 11 يوليو 1906 مقالة طويلة قال فيها إن لمصر مكانا خاصا بها فى الشرق فهى التى وهبت العالم قناة السويس، وفتحت السودان للمدنية، وفيها طبقة راقية الفكر. وتقدم الأمة بالأمة يمشى فيها سراعا، ومن المستحيل أن تحكم مصر وهذا حالها كما تحكم بلاد بعيدة مختبئة فى أعماق إفريقيا وليس بينها وبين أوروبا اتصال... أما الشعراء فقد انفعلوا بما حدث وكان لابد أن ينفعلوا، فهذا شاعر النيل حافظ إبراهيم ينظم قصيدته فى يوليو من نفس العام يقول فيها: أيها القائمون بالأمر فينا... هل نسيتم ولاءنا والودادا خفضوا جيشكم وناموا هنيئا... وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا ليت شعرى أتلك محكمة التفتيش... عادت أم عهد نيرون عادا وهذا أمير الشعراء أحمد شوقى يقول فى 27 يونيو 1907 فى الذكرى الأولى للحادث يا دنشواى على رباك سلام... ذهبت بأنس ربوعك الأيام كيف الأرامل فيك بعد رجالها... وبأى حال أصبح الأيتام عشرون بيتا أقفرت وانتابها... بعد البشاشة وحشة وظلام نيرون لو أدركت عهد كرومر... لعرفت كيف تنفذ الأحكام نوحى حمائم دنشواى وروعي... شعبا بوادى النيل ليس ينام وهذا إسماعيل صبرى يقول مخاطبا الخديو عباس حلمى الثانى فى ذكرى جلوسه فى 16 يناير 1908 بمناسبة الإفراج عن المسجونين: قانون دنشواى ذاك صحيفة... تتلى فترتاع القلوب وتخفق هل يرتجى صفو ويهدأ خاطر... والموت حول نصوصها يترقرق ومضاجع القوم النيام أو أهل... بمعذب يردى وآخر يرهق لقد بعثت دنشواى الروح الوطنية من جديد وكانت بريطانيا قد راهنت على استسلام المصريين، واهتم الرأى العام فى أوروبا بفساد سياسة الاحتلال وكانت الدعاية البريطانية توحى بأن الاحتلال قد استقر فى مصر.
مع تحيات MOSTAFA BODO